سورة النور - تفسير تفسير البيضاوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون للخبيثات والطيبات لِلطَّيّبِينَ والطيبون للطيبات} أي الخبائث يتزوجن الخباث وبالعكس وكذلك أهل الطيب فيكون كالدليل على قوله: {أولئك} يعني أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو الرسول وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم. {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} إذ لو صدق لم تكن زوجته عليه الصلاة والسلام ولم يقرر عليها، وقيل: {الخبيثات} {والطيبات} من الأقوال والإِشارة إلى {الطيبين} والضمير في {يَقُولُونَ} للآفكين، أي مبرؤون مما يقولون فيهم أو {لِلْخَبِيثِينَ} و{الخبيثات} أي مبرؤون من أن يقولوا مثل قولهم. {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يعني الجنة، ولقد برأ الله أربعة بأربعة: برأ يوسف عليه الصلاة والسلام بشاهد من أهلها، وموسى عليه الصلاة والسلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بإنطاق ولدها، وعائشة رضي الله تعالى عنها بهذه الآيات الكريمة مع هذه المبالغة، وما ذلك إلا لإِظهار منصب الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلاء منزلته.
{يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} التي لا تسكنونها فإن الآجر والمعير أيضاً لا يدخلان إلا بإذن. {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} تستأذنوا من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره، فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو يؤذن له، أو من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش فإن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا له استأنس، أو تتعرفوا هل ثم إنسان من الإنس. {وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} بأن تقولوا السلام عليكم أأدخل. وعنه عليه الصلاة والسلام: «التسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع» {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} أي الاستئذان أو التسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة، أو من تحية الجاهلية كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال: حييتم صباحاً أو حييتم مساء ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أأستأذن على أمي، قال: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت، قال: أتحب أن تراها عريانة، قالا: لا، قال: فاستأذن» {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} متعلق بمحذوف أي أنزل عليكم، أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا وتعملوا بما هو أصلح لكم.
{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً} يأذن لكم. {فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} حتى يأتي من يأذن لكم فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط بل وعلى ما يخفيه الناس عادة مع أن التصرف في ملك الغير بغير إذنه محظور، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق أو كان فيه منكر ونحوها.
{وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} ولا تلحوا. {هُوَ أزكى لَكُمْ} الرجوع أطهر لكم عما لا يخلو الإِلحاح والوقوف على الباب عنه من الكراهة وترك المروءة، أو أنفع لدينكم ودنياكم. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيعلم ما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه. {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} كالربط والحوانيت والخانات والخانقات. {فِيهَا مَتَاعٌ} استمتاع. {لَكُمْ} كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والجلوس للمعاملة، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها. {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وعيد لمن دخل مدخلاً لفساد أو تطلع على عورات.
{قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} أي ما يكون نحو محرم. {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} إلا على أزواجهن أو ما ملكت أيمانهم، ولما كان المستثنى منه كالشاذ النادر بخلاف الغض أطلقه وقيد الغض بحرف التبعيض، وقيل حفظ الفروج هاهنا خاصة سترها. {ذلك أزكى لَهُمْ} أنفع لهم أو أطهر لما فيه من البعد عن الريبة. {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} لا يخفى عليه إجالة أبصارهم واستعمال سائر حواسهم وتحريك جوارحهم وما يقصدون بها، فليكونوا على حذر منه في كل حركة وسكون.
{وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن} فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال. {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} بالتستر أو التحفظ عن الزنا، وتقديم الغض لأن النظر بريد الزنا. {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} كالحلي والثياب والأصباغ فضلاً عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدى له. {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن في سترها حرجاً، وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية، والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتَحَمُّلِ الشهادة. {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} ستراً لأعناقهن. وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وهشام بضم الجيم. {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} كرره لبيان من يحل له الإِبداء ومن لا يحل له. {إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج بكره. {أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أخواتهن} لكثرة مداخلتهم عليهن واحتياجهن إلى مداخلتهم وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وإنما لم يذكر الأعمام والأخوال لأنهم في معنى الإِخوان لا يتحرجن عن وصفهن للرجال أو النساء كلهن، وللعلماء في ذلك خلاف. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} يعم الإِماء والعبيد، لما روي: «أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد وهبه لها وعليها ثوب، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال عليه الصلاة والسلام: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك» وقيل المراد بها. الإِماء وعبد المرأة كالأجنبي منها. {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال} أي أولي الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الهم والممسوحون، وفي المجبوب والخصي خلاف وقيل البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئاً من أمور النساء، وقرأ ابن عامر وأبو بكر غير بالنصب على الحال. {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء} لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الاطلاع، أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف. {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال فإن ذلك يورث ميلاً في الرجال، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة وأدل على المنع من رفع الصوت. {وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون} إذ لا يكاد يخلوا أحد منكم من تفريط سيما في الكف عن الشهوات، وقيل توبوا مما كنتم تفعلونه، في الجاهلية فإنه وإن جب بالإِسلام لكنه يجب الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر، وقرأ ابن عامر {أيه المؤمنون} وفي (الزخرف) {يا أَيُّهَ الساحر} وفي {الرحمن} {أَيُّهَ الثقلان} بضم الهاء في الوصل في الثلاثة والباقون بفتحها، ووقف أبو عمرو والكسائي عليهن بالألف، ووقف الباقون بغير الألف. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بسعادة الدارين.
{وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} لما نهى عما عسى يفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع بعد الزجر عنه مبالغة فيه عقبه بأمر النكاح الحافظ له والخطاب للأولياء والسادة، وفيه دليل على وجوب تزويج المولية والمملوك وذلك عند طلبهما، وإشعار بأن المرأة والعبد لا يستبدان به إذ لو استبدا لما وجب على الولي والمولى، و{أيامى} مقلوب أيايم كيتامى، جمع أيم وهو العزب ذكراً كان أو أنثى بكراً كان أو ثيباً قال:
فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكح وَإِنْ تَتَأْيَّمِي *** وَإِنْ كُنْت أَفْتى مِنْكُم أَتَأَيَّم
وتخصيص {الصالحين} لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهم، وقيل المراد الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه، {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} رد لما عسى يمنع من النكاح، والمعنى لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح، أو وعد من الله بالإِغناء لقوله صلى الله عليه وسلم: «اطلبوا الغنى في هذه الآية» لكن مشروط بالمشيئة كقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاء}
{والله واسع} ذو سعة لا تنفد نعمته إذ لا تنتهي قدرته. {عَلِيمٌ} يبسط الرزق ويقدر على ما تقتضيه حكمته.
{وَلْيَسْتَغفِفِ} وليجتهد في العفة وقمع الشهوة. {الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} أسبابه، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به أو بالوجدان التمكن منه. {حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} فيجدوا ما يتزوجون به. {والذين يَبْتَغُونَ الكتاب} المكاتبة وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على كذا من الكتاب لأن السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال، أو لأنه مما يكتب لتأجيله أو من الكتب بمعنى الجمع لأن العوض فيه يكون منجماً بنجوم يضم بعضها إلى بعض. {مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم} عبداً كان أو أمة والموصول بصلته مبتدأ خبره. {فكاتبوهم} أو مفعول لمضمر هذا تفسيره والفاء لتضمن معنى الشرط، والأمر فيه للندب عند أكثر العلماء لأن الكتابة معاوضة تتضمن الارفاق فلا تجب كغيرها واحتجاج الحنفية بإطلاقه على جواز الكتابة الحالية ضعيف لأن المطلق لا يعم مع أن العجز عن الأداء في الحال يمنع صحتها كما في السلم فيما لا يوجد عند المحل. {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} أمانة وقدرة على أداء المال بالاحتراف، وقد روي مثله مرفوعاً. وقيل صلاحاً في الدين. وقيل مالاً وضعفه ظاهر لفظاً ومعنى وهو شرط الأمر فلا يلزم من عدمه عدم الجواز. {وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِى ءَاتَاكُمْ} أمر للموالي كما قبله بأن يبذلوا لهم شيئاً من أموالهم، وفي معناه حط شيء من مال الكتابة وهو للوجوب عند الأكثر ويكفي أقل ما يتمول. وعن علي رضي الله تعالى عنه يحط الربع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الثلث، وقيل ندب لهم إلى الإنفاق عليهم بعد أن يؤتوا ويعتقوا، وقيل أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة ويحل للمولى وإن كان غنياً، لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة: «هو لها صدقة ولنا هدية» {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم} إماءكم. {عَلَى البغاء} على الزنا، كانت لعبد الله بن أبي ست جوار يكرههن على الزنا وضرب عليهن الضرائب فشكا بعضهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} تعففاً شرط للإِكراه فإنه لا يوجد دونه، وإن جعل شرطاً للنهي لم يلزم من عدمه جواز الإِكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهي بامتناع المنهي عنه، وإيثار إن على إذا لأن إرادة التحصن من الإِماء كالشاذ النادر. {لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لهن أوله إن تاب، والأول أوفق للظاهر ولما في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ولا يرد عليه أن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة لأن الإِكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات ولذلك حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص.
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات} يعني الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بالكسر في هذا وفي (الطلاق) لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول المستقيمة من بين بمعنى تبين، أو لأنها بينت الأحكام والحدود. {وَمَثَلاً مّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ} أو ومثلاً من أمثال من قبلكم أي وقصة عجيبة مثل قصصهم، وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها كقصة يوسف ومريم. {وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ} يعني ما وعظ به في تلك الآيات، وتخصيص المتقين لأنهم المنتفعون بها، وقيل المراد بالآيات القرآن والصفات المذكورة صفاته.
{الله نُورُ السموات والأرض} النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولاً وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف كقولك: زيد كرم بمعنى ذو كرم، أو على تجوز إما بمعنى منور السموات والأرض وقد قرئ به فإنه تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار أو بالملائكة والأنبياء. أو مدبرهما من قولهم للرئيس الفائق في التدبير: نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور. أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره وأصل الظهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم، والله سبحانه وتعالى موجود بذاته موجد لما عداه. أو الذي به تدرك أو يدرك أهلها من حيث إنه يطلق على الباصرة لتعلقها به أو لمشاركتها له في توقف الإِدراك عليه ثم على البصيرة لأنها أقوى إدراكاً فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودات والمعدومات، وتغوص في بواطنها وتتصرف فيها بالتركيب والتحليل، ثم إن هذه الإِدراكات ليست لذاتها وإلا لما فارقتها فهي إذن من سبب يفيضها عليها وهو الله سبحانه وتعالى إبتداء أو بتوسط من الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنواراً، ويقرب منه قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: معناه هادي من فيهما فهم بنوره يهتدون، وإضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالها على الأنوار، الحسية والعقلية وقصور الإِدراكات عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما. {مَثَلُ نُورِهِ} صفة نوره العجيبة الشأن، وإضافته إلى ضميره سبحانه وتعالى دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره. {كَمِشْكَاةٍ} كصفة مشكاة، وهي الكوة الغير النافذة. وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإِمالة. {فِيهَا مِصْبَاحٌ} سراج ضخم ثاقب، وقيل المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل والمصباح الفتيلة المشتعلة. {المصباح فِى زُجَاجَةٍ} في قنديل من الزجاج. {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ} مضيء متلألئ كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدرء أو فعيل كمريق من الدرء فإنه يدفع الظلام بضوئه، أو بعض ضوئه بعضاً من لمعانه إلا أنه قلبت همزته ياء ويدل عليه قراءة حمزة وأبي بكر على الأصل، وقراءة أبي عمرو والكسائي {درئ} كشريب وقد قرئ به مقلوباً.
{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة زَيْتُونَةٍ} أي إبتداء ثقوب المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت ذبالته بزيتها، وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم إبدال الزيتونة عنها تفخيم لشأنها، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالياء والبناء للمفعول من أوقد وحمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء كذلك على إسناده إلى {الزجاجة} بحذف المضاف، وقرئ: {توقد} من تتوقد ويوقد بحذف التاء لاجتماع زيادتين وهو غريب. {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} تقع الشمس عليها حيناً بعد حين بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة، أو صحراء واسعة فإن ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى، أو لا نابتة في شرق المعمورة وغربها بل في وسطها وهو الشام فإن زيتونه أجود الزيتون، أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائماً فتحرقها أو في مفيأة تغيب عنها دائماً فتتركها نيئاً وفي الحديث: «لا خير في شجرة ولا نبات في مفيأة ولا خير فيهما في مضحى» {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لتلألئه وفرط وبيصه. {نُّورٌ على نُورٍ} نور متضاعف فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط المشكاة لأشعته، وقد ذكر في معنى التمثيل وجوه، الأول: أنه تمثيل للهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة، أو تشبيه للهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح، وإنما ولي الكاف المشكاة لاشتمالها عليه، وتشبيهه به أوفق من تشبيهه بالشمس، أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها، ويؤيده قراءة أبي: {مثل نور المؤمن}، أو تمثيل لما منح الله به عباده من القوى الداركة الخمس المترتبة التي منوط بها المعاش والمعاد وهي: الحساسة التي تدرك بها المحسوسات بالحواس الخمس، والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت، والعاقلة التي تدرك الحقائق الكلية، والمفكرة وهي التي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم تعلم، والقوة القدسية التي تتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء المعنية بقوله تعالى: {ولكن جعلناه نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية وهي: (المشكاة)، و(الزجاجة)، و(المصباح)، و(الشجرة)، و(الزيت)، فإن الحساسة كالمشكاة لأن محلها كالكوى ووجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب وضبطها للأنوار العقلية وإنارتها بما تشتمل عليه من المعقولات، والعاقلة كالمصباح لإِضاءتها بالإِدراكات الكلية والمعارف الإِلهية، والمفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة بالزيت الذي هو مادة المصابيح التي لا تكون شرقية ولا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية، أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلين منتفعة من الجانبين، والقوة القدسية كالزيت فإنها لصفائها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكر ولا تعلم، أو تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك فإنها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكاة، ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات بحيث تتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها قابلة للأنوار، وذلك التمكن إن كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة وإن كان بالحدس فكالزيت، وإن كان بقوة قدسية فكالتي يكاد زيتها يضيء لأنها تكاد تعلم ولو لم تتصل بملك الوحي والإِلهام الذي مثله النار من حيث إن العقول تشتعل عنه، ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح، فإذا استحضرتها كانت نوراً على نور.
{يَهْدِي الله لِنُورِهِ} لهذا النور الثاقب. {مَن يَشَآء} فإن الأسباب دون مشيئته لاغية إذ بها تمامها. {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} إدناء للمعقول من المحسوس توضيحاً وبياناً. {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} معقولاً كان أو محسوساً ظاهراً كان أو خفياً، وفيه وعد ووعيد لمن تدبرها وإن لم يكترث بها.


{فِي بُيُوتٍ} متعلق بما قبله أي كمشكاة في بعض بيوت، أو توقد في بيوت فيكون تقييد للممثل به بما يكون تحبيراً ومبالغة فيه فإن قناديل المساجد تكون أعظم، أو تمثيلاً لصلاة المؤمنين أو أبدانهم بالمساجد، ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة إذ المراد بها ماله هذا الوصف بلا اعتبار وحدة ولا كثرة أو بما بعده وهو يسبح، وفيها تكرير مؤكد لا بيذكر لأنه من صلة أن فلا يعمل فيما قبله أو بمحذوف مثل سبحوا في بيوت، والمراد بها المساجد لأن الصفة تلائمها. وقيل المساجد الثلاثة والتنكير للتعظيم. {أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} بالبناء أو التعظيم. {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه. {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} ينزهونه أي يصلون له فيها بالغدوات والعشيات، والغدو مصدر أطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل، وقرئ: {والايصال} وهو الدخول في الأصيل وقرأ ابن عامر وأبو بكر {يسبح} بالفتح على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة ورفع رجال بما يدل عليه، وقرئ تسبح بالتاء مكسوراً لتأنيث الجمع ومفتوحاً على إسناده إلى أوقات الغدو.
{رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة} لا تشغلهم معاملة رابحة. {وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعارضة، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء، وقيل المراد بالتجارة الشراء فإنه أصلها ومبدؤها، وقيل الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال تجر في كذا إذا جلبه وفيه إيماء بأنهم تجار. {وَإِقَامِ الصلاة} عوض فيه الإِضافة من التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإِعلال كقوله:
وَأَخْلَفُوكَ عد الأَمرِ الَّذِي وَعَدُوا ***
{وَإِيتَاء الزكواة} ما يجب إخراجه من المال للمستحقين. {يخافون يَوْماً} مع ما هم عليه من الذكر والطاعة. {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} تضطرب وتتغير من الهول، أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصره، أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتبهم.
{لِيَجْزِيَهُمُ الله} متعلق بيسبح أو لا تلهيهم أو يخافون. {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أحسن جزاء ما عملوا الموعود لهم من الجنة. {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم ولم تخطر ببالهم. {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشيئة وسعة الإِحسان.
{والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} والذين كفروا حالهم على ضد ذلك فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كالسراب، وهو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء يسرب أي يجري، والقيعة بمعنى القاع وهو الأرض الخالية عن النبات وغيره المستوية، وقيل جمعه كجار وجيرة وقرئ: {بقيعات} كديمات في ديمة.
{يَحْسَبُهُ الظمآن مَاءً} أي العطشان وتخصيصه لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحاجة. {حتى إِذَا جَاءَهُ} جاء ما توهمه ماء أو موضعه. {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} مما ظنه. {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} عقابه أو زبانيته أو وجده محاسباً إياه. {فوفاه حِسَابَهُ} استعراضاً أو مجازاة. {والله سَرِيعُ الحساب} لا يشغله حساب عن حساب. روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية تعبد في الجاهلية والتمس الدين فلما جاء الإِسلام كفر.
{أَوْ كظلمات} عطف على {كَسَرَابٍ} و{أَوْ} للتخيير فإن أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب، أو للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب وإن كانت قبيحة فكالظلمات، أو للتقسيم باعتبار وقتين فإنها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الآخرة. {فِي بَحْرٍ لُّجّيّ} ذي لج أي عميق منسوب إلى اللج وهو معظم الماء. {يغشاه} يغشى البحر. {مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي أمواج مترادفة متراكمة. {مّن فَوْقِهِ} من فوق الموج الثاني. {سَحَابٌ} غطى النجوم وحجب أنوارها، والجملة صفة أخرى لل {بَحْرٍ}. {ظلمات} أي هذه ظلمات. {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} وقرأ ابن كثير {ظلمات} بالجر على إبدالها من الأولى أو بإضافة ال {سَحَابٌ} إليها في رواية البزي. {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} وهي أقرب ما يرى إليه. {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لم يقرب أن يراها فضلاً أن يراها كقول ذي الرمة:
إِذَا غَيَّرَ النَّأَي المُحِبِّينَ لَمْ يَكد *** رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
والضمائر للواقع في البحر وإن لم يجر ذكره لدلالة المعنى عليه. {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً} ومن لم يقدر له الهداية. لم يوفقه لأسبابها. {فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} خلاف الموفق الذي له نور على نور.
{أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم علماً يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي أو الاستدلال. {أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن فِي السموات والأرض} ينزه ذاته عن كل نقص وآفة أهل السموات والأرض، و{مِنْ} لتغليب العقلاء أو الملائكة والثقلان بما يدل عليه من مقال أو دلالة حال. {والطير} على الأول تخصيص لما فيها من الصنع الظاهر والدليل الباهر ولذلك قيدها بقوله: {صافات} فإن إعطاء الأجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجو باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرة الصانع تعالى ولطف تدبيره. {كُلٌّ} كل واحد مما ذكر أو من الطير. {قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي قد علم الله دعاءه وتنزيهه اختياراً أو طبعاً لقوله: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أو علم كل على تشبيه حاله في الدلالة على الحق والميل إلى النفع على وجه يخصه بحال من علم ذلك مع أنه لا يبعد أن يلهم الله تعالى الطير دعاء وتسبيحاً كما ألهمها علوماً دقيقة في أسباب تعيشها لا تكاد تهتدي إليها العقلاء.
{وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} فإنه الخالق لهما وما فيهما من الذوات والصفات والأفعال من حيث إنها ممكنة واجبة الانتهاء إلى الواجب. {وإلى الله المصير} مرجع الجميع.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً} يسوقه ومنه البضاعة المزجاة فإنه يزجيها كل أحد. {ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ} بأن يكون قزعاً فيضم بعضه إلى بعض، وبهذا الاعتبار صح بينه إذ المعنى بين أجزائه، وقرأ نافع برواية ورش {يولف} غير مهموز. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} متراكماً بعضه فوق بعض. {فَتَرَى الودق} المطر. {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} من فتوقه جمع خلل كجبال في جبل، وقرئ من {خلله}. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء} من الغمام وكل ما علاك فهو سماء. {مِن جِبَالٍ فِيهَا} من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها. {مِن بَرَدٍ} بيان للجبال والمفعول محذوف أي {يُنَزّلٍ} مبتدأ {مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} برداً، ويجوز أن تكون من الثانية أو الثالثة للتبعيض واقعة موقع المفعول، وقيل المراد بالسماء المظلة وفيها جبال من برد كما في الأرض جبال من حجر، وليس في العقل قاطع يمنعه والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبقة الباردة من الهواء وقوي البرد هناك اجتمع وصار سحاباً، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطراً، وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجاً وإِلا نزل برداً، وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض وينعقد سحاباً. ينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك لا بد أن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالها وأوقاتها وإليها أشار بقوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عن مَن يَشَاء} والضمير لل {بَرَدٍ}. {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} ضوء برقه، وقرئ بالمد بمعنى العلو وبإدغام الدال في السين و{بَرْقِهِ} بضم الباء وفتح الراء وهو جمع برقة وهي المقدار من البرق كالغرفة وبضمها للاتباع. {يَذْهَبُ بالأبصار} بأبصار الناظرين إليه من فرط الإِضاءة وذلك أقوى دليل على كمال قدرته من حيث إنه توليد للضد من الضد، وقرئ: {يَذْهَبُ} على زيادة الباء.
{يُقَلِّبُ الله اليل والنهار} بالمعاقبة بينهما أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور أو بما يعم ذلك. {إِنَّ فِى ذَلِكَ} فيما تقدم ذكره. {لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} لدلالة على وجود الصانع القديم وكمال قدرته وإحاطة علمه ونفاذ مشيئته وتنزهه عن الحاجة وما يفضي إليها لمن يرجع إلى بصيرة.
{والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} حيوان يدب على الأرض. وقرأ حمزة والكسائي {خالق كل دابة} بالإِضافة. {مِن مَّاء} هو جزء مادته، أو ماء مخصوص هو النطفة فيكون تنزيلاً للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما يتولد عن النطفة، وقيل: {مِن مَّاء} متعلق ب {دَابَّةٍ} وليس بصلة ل {خلقَ}. {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ} كالحية وإنما سمي الزحف مشياً على الاستعارة أو المشاكلة. {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ} كالإِنس والطير. {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} كالنعم والوحش ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب فإن اعتمادها إذا مشت على أربع، وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة. {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء} مما ذكر ومما لم يذكر بسيطاً ومركباً على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته. {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيفعل ما يشاء.
{لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات} للحقائق بأنواع الدلائل. {والله يَهْدِي مَن يَشَاء} بالتوفيق للنظر فيها والتدبر لمعانيها. {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو دين الإِسلام الموصل إلى درك الحق والفوز بالجنة.
{وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول} نزلت في بشر المنافق خاصم يهودياً فدعاه إلى كعب بن الأشرف وهو يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل في مغيرة بن وائل خاصم عليّاً رضي الله عنه في أرض فأبى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَأَطَعْنَا} أي وأطعناهما. {ثُمَّ يتولى} بالامتناع عن قبول حكمه. {فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذلك} بعد قولهم هذا. {وَمَا أولئك بالمؤمنين} إشارة إلى القائلين بأسرهم فيكون إعلاماً من الله تعالى بأن جميعهم وإن آمنوا بلسانهم لم تؤمن قلوبهم، أو إلى الفريق منهم وسلب الإيمان عنهم لتوليهم، والتعريف فيه للدلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفتهم وهم المخلصون في الإِيمان والثابتون عليه.
{وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي ليحكم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه الحاكم ظاهراً والمدعو إليه، وذكر الله لتعظيمه والدلالة على أن حكمه صلى الله عليه وسلم في الحقيقة حكم الله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} فاجأ فريق منهم الإِعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم، وهو شرح للتولي ومبالغة فيه.
{وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق} أي الحكم لا عليهم. {يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم، و{إِلَيْهِ} صلة ل {يَأْتُواْ} أو ل {مُذْعِنِينَ} وتقديمه للاختصاص.
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} كفر أو ميل إلى الظلم. {أَمِ ارتابوا} بأن رأوا منك تهمة فزال يقينهم وثقتهم بك. {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} في الحكومة. {بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم فتعين الأول، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققاً عندهم أو متوقعاً وكلاهما باطل، لأن منصب نبوته وفرط أمانته صلى الله عليه وسلم يمنعه فتعين الأول وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف والفصل لنفي ذلك عن غيرهم سيما المدعو إلى حكمه.


{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وأولئك هُمُ المفلحون} على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، وقرئ: {قَوْلَ} بالرفع و{لِيَحْكُمَ} على البناء للمفعول وإسناده إلى ضمير مصدره على معنى ليفعل الحكم.
{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فيما يأمرانه أو في الفرائض والسنن. {وَيَخْشَ الله} على ما صدر عنه من الذنوب. {وَيَتَّقْهِ} فيما بقي من عمره، وقرأ يعقوب وقالون عن نافع بلا ياء وأبو بكر وأبو عمرو بسكون الهاء، وحفص بسكون القاف فشبه تقه بكتف وخفف والهاء ساكنة في الوقف بالاتفاق. {فأولئك هُمُ الفائزون} بالنعيم المقيم.
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} إنكار للامتناع عن حكمه. {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} الخروج عن ديارهم وأموالهم. {لَيُخْرِجَنَّ} جواب ل {أَقْسَمُواْ} على الحكاية. {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ} على الكذب. {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين على الطاعة النفاقية المنكرة. أو {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أمثل منها أو لتكن طاعة، وقرئت بالنصب على أطيعوا طاعة. {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فلا يخفى عليه سرائركم.
{قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به على الحكاية مبالغة في تبكيتهم. {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ} أي على محمد صلى الله عليه وسلم. {مَا حُمّلَ} من التبليغ. {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ} من الامتثال. {وَإِن تُطِيعُوهُ} في حكمه. {تَهْتَدُواْ} إلى الحق. {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} التبليغ الموضح لما كلفتم به، وقد أدى وإنما بقي {مَّا حُمّلْتُمْ} فإن أديتم فلكم وإن توليتم فعليكم.
{وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمة أوله ولمن معه ومن للبيان {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم، وهو جواب قسم مضمر تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم، أو الوعد في تحققه منزل منزلة القسم. {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني بني إسرائيل استخلفهم في مصر والشام بعد الجبابرة، وقرأ أبو بكر بضم التاء وكسر اللام وإذا ابتدأ ضم الألف والباقون بفتحهما وإذا ابتدؤوا كسروا الألف. {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ} وهو الإِسلام بالتقوية والتثبيت. {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الأعداء، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بالتخفيف. {أَمْناً} منهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة وكان يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى أنجز الله وعده فأظهرهم على العرب كلهم وفتح لهم بلاد الشرق والغرب، وفيه دليل على صحة النبوة للإِخبار عن الغيب على ما هو به وخلافة الخلفاء الراشدين إذ لم يجتمع الموعود والموعود عليه لغيرهم بالإِجماع.
وقيل الخوف من العذاب والأمن منه في الآخرة. {يَعْبُدُونَنِي} حال من الذين لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن. {لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين. {وَمَن كَفَرَ} ومن ارتد أو كفر هذه النعمة. {بَعْدَ ذَلِكَ} بعد الوعد أو حصول الخلافة. {فأولئك هُمُ الفاسقون} الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات، أو كفروا تلك النعمة العظيمة.
{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكواة وَأَطِيعُواْ الرسول} في سائر ما أمركم به ولا يبعد عطف ذلك على أطيعوا الله فإن الفاصل وعد على المأمور به، فيكون تكرير الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للتأكيد وتعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه بقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} كما علق به الهدى.
{لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض} لا تحسبن يا محمد الكفار معجزين لله عن إدراكهم وإهلاكهم، و{فِي الأرض} صلة {مُعجِزِينَ}. وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على أن الضمير فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى كما هو في القراءة بالتاء أو {الذين كَفَرُواْ} فاعل والمعنى ولا يحسبن الكفار في الأرض أحداً معجزاً لله، فيكون {مُعْجِزِينَ فِي الأرض} مفعوليه أو لا يحسبونهم {مُعَجِزِينَ} فحذف المفعول الأول لأن الفاعل والمفعولين لشيء واحد فاكتفى بذكر اثنين عن الثالث. {وَمَأْوَاهُمُ النار} عطف عليه من حيث المعنى كأنه قيل: الذين كفروا ليسوا بمعجزين ومأواهم النار، لأن المقصود من النهي عن الحسبان تحقيق نفي الإِعجاز. {وَلَبِئْسَ المصير} المأوى الذي يصيرون إليه.
{يا أيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} رجوع إلى تتمة الأحكام السالفة بعد الفراغ من الإِلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها والوعد عليها والوعيد على الإِعراض عنها، والمراد به خطاب الرجال والنساء غلب فيه الرجال لما روي أن غلام أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت. وقيل أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدلج بن عمرو الأنصاري وكان غلاماً وقت الظهيرة ليدعو عمر، فدخل وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده وقد أنزلت هذه الآية: {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} والصبيان الذين لم يبلغوا من الأحرار فعبر عن البلوغ بالاحتلام لأنه أقوى دلائله. {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} في اليوم والليلة مرة. {مّن قَبْلِ صلاة الفجر} لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة، ومحله النصب بدلاً من ثلاث مرات أو الرفع خبراً لمحذوف أي هي من قبل صلاة الفجر.
{وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم} أي ثيابكم لليقظة للقيلولة. {مّنَ الظهيرة} بيان للحين. {وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء} لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف. {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} أي هي ثلاث أوقات يختل فيها تستركم، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده وأصل العورة الخلل ومنها أعور المكان ورجل أعور. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي {ثلاث} بالنصب بدلاً من {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ}. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان، وليس فيه ما ينافي آية الاستئذان فينسخها لأنه في الصبيان ومماليك المدخول عليه وتلك في الأحرار البالغين. {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} أي هم طوافون استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة، وفيه دليل على تعليل الأحكام وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها بأنها عورات. {بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} بعضكم طائف على بعض أو يطوف بعضكم على بعض. {كذلك} مثل ذلك التبيين. {يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} أي الأحكام. {والله عَلِيمٌ} بأحوالكم. {حَكِيمٌ} فيما شرع لكم.
{وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} الذين بلغوا من قبلهم في الأوقات كلها، واستدل به من أوجب استئذان العبد البالغ على سيدته، وجوابه أن المراد بهم المعهودين الذين جعلوا قسيماً للمماليك فلا يندرجون فيهم. {كذلك يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كرره تأكيداً ومبالغة في الأمر بالاستئذان.
{والقواعد مِنَ النساء} العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل. {اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} لا يطمعن فيه لكبرهن. {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي الثياب الظاهرة كالجلباب، والفاء فيه لأن اللام في {القواعد} بمعنى اللاتي أو لوصفها بها. {غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ} غير مظهرات زينة مما أمرن بإخفائه في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم: سفينة بارجة لا غطاء عليها، والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطاً بسوادها كله لا يغيب منه شيء، إلا أنه خص بتكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال. {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} من الوضع لأنه أبعد من التهمة. {والله سَمِيعٌ} لمقالتهن للرجال. {عَلِيمٌ} بمقصودهن.
{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} نفي لما كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذراً من استقذارهم، أو أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح ويبيح لهم التبسط فيه إذا خرج إلى الغزو وخلفهم على المنازل مخافة أن لا يكون ذلك من طيب قلب، أو من إجابة من دعوهم إلى بيوت آبائهم وأولادهم وأقاربهم فيطعمونهم كراهة أن يكونوا كلاً عليهم، وهذا إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة أو كان في أول الإِسلام ثم نسخ بنحو قوله: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ} وقيل نفي للحرج عنهم في القعود عن الجهاد وهو لا يلائم ما قبله ولا ما بعده. {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك» وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن أطيب ما يأكل المؤمن من كسبه وإن ولده من كسبه» {أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرفكم من ضيعة أو ماشية وكالة أو حفظاً. وقيل بيوت المماليك والمفاتح جمع مفتح وهو ما يفتح به وقرئ: {مفتاحه}. {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أو بيوت صديقكم فإنهم أرضى بالتبسط في أموالهم وأسر به، وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط، هذا كله إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ولذلك خصص هؤلاء فإنه يعتاد التبسط بينهم، أو كان ذلك في أول الإِسلام فنسخ فلا احتجاج للحنفية به على أن لا قطع بسرقة مال المحرم. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} مجتمعين أو متفرقين نزلت في بني ليث ابن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده. أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه. أو في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطبائع في القذارة والنهمة. {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً} من هذه البيوت {فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة. {تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله} ثابتة بأمره مشروعة من لدنه، ويجوز أن تكون صلة للتحية فإنه طلب الحياة وهي من عنده تعالى وانتصابها بالمصدر لأنها بمعنى التسليم. {مباركة} لأنها يرجى بها زيادة الخير والثواب. {طَيِّبَةً} تطيب بها نفس المستمع. وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال لي: «متى لقيت أحداً من أمتي فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين» {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} كرره ثلاثاً لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهذا بما هو المقصود منه فقال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي الحق والخير في الأمور.

1 | 2 | 3 | 4